24‏/04‏/2013

عندما إستعدت الأمل في العمل الخيري


"من السهل أن تتبرع بالمال، لكن من الصعب أن تقرر تتبرع به لمن ؟ و لأي غرض ؟ و متى ؟ و بكم تتبرع ؟" - أرسطو

قبل ما يقارب الثلاثة أشهر و في أحد الصباحات المكتبية المملة التي لا يسليني بها سوى دعابات القهوجي الفلبيني دخل مكتبي و وضع فنجان القهوة دون أن ينظر إلي أو يبادرني بـ"صباح الخير" كعادته .. و خرج ، و في وقت لاحق من اليوم سألت أحد زملائه عن السبب فأبلغني بأن والدته تعاني من ورم سرطاني في منطقة الرحم و طلب لها الطبيب عملية عاجلة و لكنه لا يملك تكاليفها ، و في نهاية اليوم طلبته في مكتبي و إستفسرت منه عن الموضوع و بعد عدة محاولات و الكثير من الدموع أخذت منه المزيد من التفاصيل ..
تكلفة العملية 7000 ريال سعودي و يجب أن تتم في أسرع وقت ، و بحكم أن راتبه 1200 ريال فلم يستطع جمع سوى مبلغ 2000 ريال .. راتبه + 800 ريال سلفة من أحد زملائه ، طلبت منه إعادة السلفة لزميله و تزويدي بتقرير طبي عن الحالة لعلي أستطيع مساعدته بعرض مشكلته على إدارة الشركة و على من أستطيع الوصول إليهم من أهل الخير ، و مباشرة كتبت هذه التغريدة في تويتر ..



و قصصت القصة على أحد الزملاء في المكتب لعله يدلني على جمعية خيرية تستطيع المساعدة ..

هو : طيب كلمت باقي الشباب في المكتب ؟
أنا : لا لسه بس يا رجال المبلغ كبير و هذول ما عندهم سالفة .. لو تعصّرهم و تجري وراهم أسبوع ما بتطلع منهم بأكثر من 500 ريال و الموضوع مستعجل و ما فيني حيل أجري وراهم .
هو : يا أخي إنت كلمهم .
أنا : أدري .. بكلمهم .. بس إنت برضه شوف لو لقيتلنا أحد يقدر يدبر المبلغ بسرعة .

عدت للمنزل و وفقني الله عن طريق إحدى قريباتي في الوصول لسيدة كريمة كانت تحتفط بمبلغ 5000 ريال للتبرع لمشروع خيري سيتم بعد أكثر من شهر ، فأعطتني المبلغ و طلبت مني الإحتفاظ به و إستخدامه فقط في تغطية ما أعجز عن جمعه من تكاليف العملية و أعيد لها ما تبقى ، و بصراحة لم أكن متفائلاً و توقعت أن أعيد لها الظرف فارغاً سوى من ورقة أسطّر لها عليها بعض الدعاء و كلمات الشكر ... و بحمد الله خاب ظني ، فخلال أقل من يوم و نصف و بتوفيق من رب العالمين تم جمع كامل تكاليف العملية ..
  • 5150 ريال عن طريق أهل الخير في تويتر .
  • 1850 ريال عن طريق الزملاء في المكتب .
و لم أحتاج للمس المبلغ الذي أعطتني إياه السيدة و أبلغتها بأنني سأقوم بإعادته لها كاملاً مساء الغد .. فأصابها الإحباط لأنها لم تستطع أن تشارك في أجر هذا العمل الخيري .

صباح اليوم التالي قمت بتسليم المبلغ للعامل الذي إنهار باكياً و لم يصدق أن هذا العدد من الناس إهتموا و ساهموا في مساعدته و طلبت منه التوجه لأقرب مكتب تحويل و تحويله للمستشفى الذي ستتم فيه العملية ، و بعد أن قام بتحويل المبلغ جاء ليبلغني و يستشيرني في موضوع آخر .. فبحكم أنه الإبن الوحيد لوالدته المطلقة و أنه لا يزال يحتفظ براتب هذا الشهر في جيبه فهو يريد طلب إجازة أسبوع من الإدارة ليسافر و يرافق والدته في المستشفى حتى يطمئن عليها ، باركت له هذا الإقتراح و دعمته بشدة .. لكن كانت المشكلة أنه ذهب في إجازة قبل أقل من عامين و لا يستحق إجازة أخرى أو تذكرة من الشركة و يرغب في شراء التذكرة بالمبلغ الذي لا يزال يحتفظ به ، طلبت منه إعطائي فرصة حتى نهاية اليوم قبل أن يتوجه لإدارته لطلب الإجازة .

أبلغت أحد الزملاء في قسم العلاقات الحكومية بطلب العامل و تطوع لأن يتولى موضوع طلب الإجازة بحكم علاقته الطيبة بمدير العامل ، و بالفعل .. خلال أقل من 3 ساعات قام زميلي بأخذ موافقة مدير العامل و إستخراج فيزا الخروج و العودة و بقيت  المعضلة الأخيرة .. هل نتركه يشتري التذكرة من جيبه ؟!

و بعد البحث في مواقع الإنترنت كان سعر أقل تذكرة ذهاب و عودة للفلبين هو 2400 ريال و هذا يساوي بالضبط ضعف المبلغ الذي يحتفظ به العامل في جيبه .. ففتحنا ظرف التبرعات في المكتب مرة أخرى لتأمين سعر التذكرة ، و قبل أن ينتهي دوام ذلك اليوم كان سعر التذكرة بالكامل قد تمت تغطيته من بقية الزملاء في المكتب و الذين جهزوا مساعداتهم سابقاً و لكن لم تسنح لهم فرصة المساهمة في تكلفة العملية .
قام زميلي في قسم العلاقات الحكومية بإبلاغ العامل أنه قد تمت الموافقة على إجازته لمدة أسبوعين - و ليس لأسبوع واحد فقط - و تسليمه جواز سفره و تذكرته .. و بعد الكثير من العواطف و الدموع إنتهى يوم العمل الحافل .

عدت للمنزل و قمت بإرسال رسالة للسيدة التي أعطتني مبلغ 5000 ريال حتى أستفسر منها عن الوقت الذي سترسل فيه سائقها لإستلام المبلغ .. فأعادت أسفها على أنها لم تشارك في الأجر و طلبت مني إعطاء العامل 1000 ريال كمصاريف له خلال سفره و لأدوية والدته بعد العملية ، و مساء ذلك اليوم وصلتني رسالتين شخصيتين في تويتر ..

الأولى : من أحد الإخوان يعتذر فيها عن التأخير و يبدي إستعداده لتحمل كامل تكاليف العملية .
شكرته و أبلغته أنه و بتوفيق من الله إستطعنا تغطية كامل التكاليف بالإضافة إلى تكلفة سفر العامل لمرافقة والدته وقت العملية .

الثانية : من إحدى الأخوات تفيدني بأن فاعل خير تبرع بإحضار والدة العامل من الفلبين و التكفل بتكاليف إقامتها و إجرائها للعملية في السعودية .
شكرتها و أبلغتها بأن الوقت لا يسمح و الموضوع يحتوي على تعقيدات و إجراءات حكومية طويلة و أنه و بحمد الله المبلغ وصل للمستشفى في الفلبين و سيتم جدولة العملية خلال الأيام القليلة القادمة .

صباح اليوم التالي أحضر العامل قهوتي كالعادة .. وضعها على المكتب و أبلغني أنه سيطلب من المستشفى إعادة المبلغ و سيحاول تسليمه لي قبل نهاية اليوم ..

أنا : ليش بترجع الفلوس ؟! أمك ما تحتاج العملية ؟؟؟؟
هو : تحتاج لكن ما أقدر أستغني عن عملي علشان العملية .
أنا : إيش دخل هاذي في هاذي ؟؟؟؟
هو : أمس صارت مشكلة بيني و بين زميلي و يقول إني كذاب و إني حرامي و هاذي الفلوس بأحطها في جيبي و قال إنه بيبلغ مديري .
أنا : إنت أصلاً أهبل و زميلك أهبل منك .. مو إنت جبتلي التقارير و الأشعة من المستشفى ؟؟؟؟ مو إنت حولت الفلوس للمستشفى ؟؟؟؟ يا أخي هات رقم المستشفى و أنا ذحين أكلمهم يرسلولي إيصال المبلغ بالإي ميل و محد يقدر يقول عليك كذاب !!!
هو : (يبكي) أنا أخاف يخلوني أسافر و يفصلوني من العمل ..
أنا : علشانك غبي تسمع كلام زميلك .. أوراقك كلها تأكد كلامك و حتى لو أنا نفسي شاك فيك عندي رقم المستشفى و أقدر أكلمهم !!
هو : بس أنا خلاص بلغت أمي إننا ما بنسوي العملية ..
أنا : و الله يبغالك ضرب .. أمك مريضة و إنت تمرضها بزيادة !! روح بالله كلمها قولها لا تقلق

و قبل نهاية اليوم عاد لمكتبي معتذراً عن حماقته و أبلغني أنه طمئن والدته و لكنها تريد أن تكلمني .. و أعطاني جواله ، و بعد المقدمات..

هي : إحنا ما عندنا فلوس .. و ما عندنا إلا كرامتنا ، أرجوك لو هاذي الفلوس بتنزل رأس ولدي قدام زملائه تأخذ المبلغ .
أنا : يا أمي ولدك متسرع و أخذ كلام زميله بحساسية ، هي أكيد مجرد حسد و غيرة من زميله و أنا أأكدلك إننا كلنا عارفين و متأكدين إنه صادق و الأوراق و المستشفى يثبتوا هذا الكلام ، و حتى لو زميله راح و قال لمديره إنه كذاب مديره إنسان متعلم و عنده صور التقارير و الأشعة ، إقبلي إعتذاري على تسرع ولدك .. أوعدك بنضربه و نوريه شغله علشان يعقل
هي : (ضحكت)

و بالفعل لم يسلم العامل من جلسة توبيخ قاسي بعد المكالمة .

سافر العامل في نهاية الأسبوع و كان يبلغني بالمستجدات من الفلبين عن طريق الإي ميل ، قامت المستشفى بجدولة عملية والدته صباح الإثنين و لإرتفاع ضغطها تم تأجيل العملية للثلاثاء ، و يوم الثلاثاء واجهوا نفس المشكلة فقرر الطبيب إلغاء العملية لعدم إستقرار حالتها و الإكتفاء بكورسات من الإبر لمدة 6 أشهر قبل أن يعاد تقييم الحالة و أكد كلامه تقرير قامت المستشفى بإرساله لي على الإي ميل مع فاتورة العلاج و قيمة كورسات الإبر .

و عاد العامل بعد الإجازة بنفسية أفضل بالرغم من أن والدته كانت لا تزال مريضة إلا أنها تستجيب للعلاج و بحالة نفسية جيدة ، و زاد إرتياحه تواجد أخواتها معها ، و أبلغني أنه لم يستخدم سوى مبلغ 1500 ريال قيمة التنويم في المستشفى و كورسات الإبر و أنه سيعيد باقي المبلغ خلال أيام .

لا تنتهي القصة هنا .. فبعد يومين من عودته أبلغني أن والدته ذهبت اليوم للمستشفى لأخذ إحدى الإبر و عندما كشف عليها الطبيب و وجد حالتها مستقرة إقترح عليها إجراء العملية و وافقت .. و ستجريها صباح الغد .

مضى أكثر من شهرين منذ أن أجرت والدته العملية بنجاح بحمد الله .. و رغم مرور هذه المدة لا يزال زميلي العامل غير مدرك أن عملية والدته تم خلالها إزالة ورم آخر .. كان مزروعاً في مخيلتي ، فبعد أن أجبرتني الخيبات المتكررة على أن أفقد الكثير من الأمل بمجال العمل الخيري في مجتمعي و الذي أصبح غارقاً في مستنقعات الرياء و النفاق و النصب .. أعادته لي تلك الوقفة النبيلة التي وقفها الجميع مع هذا العامل الفلبيني البسيط .

الزبدة :
  • لا ترفض التبرع أو المشاركة في عمل خيري لأنك "تشك" في مصداقيته .. من حقك - و من المهم برأيي - أن تطلب أي إثبات تحتاجه حتى تتأكد أن مجهودك و مالك يذهب لمن يستحقه .
  • لا تحصر مساعداتك و عملك الخيري بالجمعيات الخيرية فلا أحد ينكر مجهوداتها الجبارة لمساعدة من يستحق المساعدة و لكن لا بد من وجود حالات فردية لا تصل لهذه الجمعيات .
  • إن توصلت لشخص محتاج لا تصوره و تنشر إسمه و عنوانه و تطلب من الناس مساعدته ، أستر عليه و كن أنت حلقة الوصل بينه و بين من يستطيع مساعدته .

نهاية .. للمرة الأولى أكتب في ملاحظات بالفصحى بناء على إقتراحات عدد من المتابعين و أحتاج لآرائكم .. هل تفضلون الملاحظات بالفصحى أم بالعامية ؟

تسعدني متابعتكم في تويتر @Mola7dat غالباً ستجدوني هناك مستلقياً ألعب في خصلات صلعتي .

2 التعليقات:

هناء الحكيم يقول...

موضوع في غاية الجمال .. الحمد لله اني لم أفقد الأمل في حياتي بالناس وبما عندهم من خير .. فعلا يحتاج المرء أن يستقصي ويسأل ويتأكد قبل أن يعطي ماله لأحد وهذا من حقه . ودائما أقول أن خمسين على خمسين ينتج منها مئات وألوف ، فقط علينا ألا نترك المجال لشح أنفسنا وسيعوضنا الله لأن وعد نبيه لنا أنه (مانقص مال من صدقة).. شكرا على التدوينة الجميلةالتي زاد بهاءها لغتك الفصحى السهلة المتماسكة ..

y يقول...

في حاجة نفسي افهمها ليه ماتحط صورتك بالتويتر اعجب من الشباب اللي مايحطون صورهم البنات وعرفناه ليه..بس الشباب !!! تدوينة جميلة عالعموم والله يأجركم ... بس جاوب على سؤالي لوسمحت لييييه ؟؟؟!!! :|

إرسال تعليق